الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا قَامَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّصَارَى بِبُطْلَانِ ثَالُوثِهِمُ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ ثَالُوثَ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْهُنُودِ، ادَّعُوا أَنَّ لَهُ أَصْلًا مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَوْ تَلَامِيذِهِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا لَا يُنَافِي التَّوْحِيدَ، فَالثَّلَاثَةُ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، وَأَنَّ كَلِمَاتِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَهَا مَعَانٍ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْمَسِيحِ فِي حَيَاتِهِ، هِيَ غَيْرُ الْمَعَانِي الِاصْطِلَاحِيَّةِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْكَاثُولِيكِ وَالْأُرْثُوذُكْسِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْثَرِ النَّصَارَى. وَالْأَحْرَارُ الْعَقْلِيُّونَ مِنْ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ يَرْفُضُونَهَا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مَلَايِينُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ وَيُسْلِمُونَ اتِّبَاعًا، كَمَا أَسْلَمُوا فِطْرَةً وَعَقْلًا.{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أَيْ مَا الْحُكْمُ الْحَقُّ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ يُوحِيهِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ رُسُلِهِ، لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ وَلَا بِعَقْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ، وَلَا بِاجْتِهَادِهِ وَاسْتِحْسَانِهِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ هِيَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.ثُمَّ بَيَّنَ أَوَّلَ أَصْلٍ بُنِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ مَنْ عَرَفَهَا، فَقَالَ: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} بَلْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَادْعُوا وَاعْبُدُوا، وَلَهُ وَحْدَهُ فَارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ فَتَوَجَّهُوا، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَلَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا كَاهِنًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا نَجْعًا وَلَا شَجَرًا، وَلَا نَهْرًا مُقَدَّسًا كَالْكِنْجِ وَالنِّيلِ، وَلَا حَيَوَانًا كَالْعِجْلِ أَبِيسَ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ لَا يَذِلُّ نَفْسَهُ بِالتَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ خَاضِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ جِنْسِهِ وَمَادَّةُ حَيَاةِ شَخْصِهِ {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 20: 50 فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَجْهَلُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْحِسَابِ {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيِ الْحَقُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ أَقْوَامَهُمْ وَمِنْهُمْ آبَائِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، لِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ آبَائِهِمُ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقَةً لَيْسَ لَهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ أَدْنَى نَصِيبٍ.وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ فِي مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تُتْلَى فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِالْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ، صَارَ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِ اللهِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ أَوْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضِ مَا يُحِبُّونَ مِنَ النَّفْعِ، فَيَدْعُونَهُمْ خَاشِعِينَ رَاغِبِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسَمُّونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِلَ عِنْدَ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ جَمِيعَ رُسُلِ اللهِ دَعُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ، كَمَا يَفْهَمُونَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْإِفْرِنْجِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا فِي الصُّحُفِ وَفِي أَسْفَارِ التَّارِيخِ وَفِيمَا يُسَمُّونَهُ فَلْسَفَةَ الدِّينِ أَوْ فَلْسَفَةَ التَّفْكِيرِ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ نَشَئُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم مِنْ زُهَاءِ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِتَصْرِيحِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ رُسُلًا دَعَوْهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ عليه السلام فَإِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ الْمَيِّتِينَ وَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالْأَصْنَامَ، وَكَانَ الْبَشَرُ قَبْلَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَتَوْحِيدِ آدَمَ عليه السلام.فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ عليه السلام لَمْ يَدْعُ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ التَّوْحِيدِ مِنْ شَرْعِ آبَائِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ قلت: إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا أَصْحَابَ شَرِيعَةٍ تَامَّةٍ لَمْ يُبْعَثْ لِنَسْخِهَا وَلَا لِتَغْيِيرِهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ سَمَاوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَحْدَثُوا تَقَالِيدَ خَيَالِيَّةً فِي الْبَعْثِ، فَهُوَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 37 يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ فَنَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَبَعْثَهُمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى لَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَمَا يَزْعُمُونَ، وَعَقَائِدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُدَوَّنَةٌ فِي التَّارِيخِ الْمَأْخُوذِ مِنْ آثَارِ الْفَرَاعِنَةِ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَنِّطُونَ أَجْسَادَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ الَّتِي فَارَقَتْهَا، وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَحْفَظُونَ فِي أَهْرَامِهِمْ وَغَيْرِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ يَعُودُونَ مُلُوكًا كَمَا كَانُوا، فَهَذِهِ أَبَاطِيلُ طَرَأَتْ عَلَى الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَقَالِيدُهُ هَذِهِ مَنْقُوشَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَهْرَامِ وَتَوَابِيتِ الْمَوْتَى وَصَفَائِحِ الْقُبُورِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِنَعِيمِ الْعَوَامِّ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَشَكَّلُونَ بِالصُّوَرِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَتَشَكُّلُ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ هُوَ الْأَصْلُ الْعِلْمِيُّ الْمَعْقُولُ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ فِي هَيْكَلٍ أَثِيرِيٍّ يَلْبَسُ جَسَدًا كَثِيفًا كَالْجَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللهُ- وَمِنْهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَشَكُّلِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّشَكُّلُ عَلَى أَكْمَلِهِ فِي الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِهَا.وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَتَرْكُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا كَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي بَيْتِ وَزِيرِ الْبِلَادِ وَفِي السِّجْنِ ثُمَّ فِي إِدَارَتِهِ لِأُمُورِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى سَائِرِ شَرِيعَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي احْتِيَالِهِ عَلَى أَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ بِمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 76. إلخ. اهـ.
|